من أكثر المواضيع التي تثير الخلاف بين الناس وتكشف الفروق العميقة في الرؤية، هي أساليب التربية.
لكلٍ منا طريقته، قناعاته، تجاربه، وحتى سقف آماله في أبنائه. تختلف الأساليب باختلاف شخصية المربي، عدد المشاركين في التربية، وواقع الحياة اليومية، لكن أغلبنا – رغم اختلاف الوسائل – يشترك في هدفٍ واحد:
أن نرى أبناءنا بخير، ناضجين، أقوياء، أسوياء… يمضون في الحياة بثقة وثبات.
لكن ماذا لو أننا بذلنا كل ما بوسعنا – الوقت، والجهد، والدعاء، والحب، والوضوح، والحدود – ثم وجدنا أنفسنا في مواجهة عناد، مقاومة، تقلبات، مواقف صادمة؟
ماذا لو أننا – بكل صدق – لم نعد نعرف كيف نتكلم، ولا متى نصمت، ولا كيف نبدأ حتى الحديث دون أن يُغلق الباب في وجوهنا قبل أن نكمل جملة؟
هذا ليس حديثًا عامًا…
اعلم ان هذا الحديث قد يكون في قلب كل أم، تحب ابناؤها حبًا يفوق الوصف، وتعرف حجم النور الذي بداخلهم، لكنها تقف أحيانًا على الحافة، لا تدري إن كانت تقترب منهم أم تبتعد عنهم.
حديث أم تحاول تربية ابناؤها في زمن صعب… حيث الكلمة من صديق تؤثر أكثر من حديث أب أو ام،
وحيث المقارنات مؤذية، والمنصات مفتوحة، والمبادئ تُختبر كل يوم.
حكت لي أم ذات مساء بصوت مرهق: "ابنتي…
ليست سيئة، ولا متمردة، بل ذكية، واعية، حادة البصيرة، لكنها في صراع داخلي مع نفسها، مع التوقعات، ومع من حولها.
أراها ترد بعناد، تتذمر من المسؤوليات، تنسى الوعود، وتحتاج متابعة لا تنتهي…
ومع ذلك، خلف تلك الملامح المتعبة، أرى قلبًا يريد أن يكون محبوبًا، مفهومًا، ومقبولًا.
أحيانًا أقول لنفسي: أين الخطأ؟
ألم أضع القواعد؟ ألم أوضح الحدود؟ ألم أزرع القيم؟ ألم أرافقها في كل خطوة؟"
في ذلك الوقت لم أكن أماً بعد ..
ولكني اليوم أعي تمامآ أن التربية ليست خط إنتاج مثالي، وأن أبناءنا ليسوا مشاريع نُديرها بل أرواح علينا أن نحتويها… حتى حين يتصرفون بعكس ما نؤمن به، وحتى إن لم يدركوا اليوم ما نقوله بحب، ربما يفهمونه يومًا حين يصبحون هم آباء وأمهات.
وقد يُتعب القلب حين نُتهم بالتقصير من فلذات أكبادنا، أو حين لا نُقابل سوى بالتمرد في وقتٍ نحتاج فيه فقط للاحتواء.
كما هو مؤلم أن نشعر أن كل ما بذلناه لا يُرى، وكل ما غرسناه لم يُثمر بعد.
لكنني مؤمنة…
أن الأم لا تُربّي وحدها، بل تسير ومعها توفيق الله، دعاؤها، وإخلاص نيتها.
ومؤمنة أن الارتباك الذي نشعر به لا يعني فشلًا، بل يعني أننا ما زلنا نحرص…
ما زلنا نريد الأفضل…
وأننا لا نرضى بأن نترك أبناءنا لمصيرهم، بل نبحث، ونسأل، ونتعلم… ونعود للمحاولة من جديد.
زمن ابنتك ليس كزمنك..
هي تعيش تحديات، ضغوط، وفضاءً مفتوحًا لم نكن نتخيله يومًا.
ولا يمكننا – ولا ينبغي لنا – أن نربّيها فقط كما رُبّينا…
بل علينا أن نعيد فهم الحياة من خلالهم، ونرتب أولوياتنا من جديد، دون أن نفرّط في القيم، أو نكسر العلاقة.
نعم، قد تكوني متعبة…
لكن لا يجب ان تصبحي يائسة.
وحيرتك لا تعني ضعفك… بل تعني أنك إنسانة قبل أن تكوني أمًا،
وأن قلبك الكبير قد تجرحه لحظات، لكنه لا ينكسر أبدًا.
فكل نبتة لها موعد إزهار،
وكل صبر سيورق بإذن الله،
وكل نية خالصة تُكتب عند الله في ميزان العطاء.
اخبري قلبك:
"سأظل أؤمن أن ابنائي سيزهرون…
بطريقتهم، في وقتهم، وعلى يد حبٍ لا يملّ منها"
اللهم ارزقنا في أبنائنا نور البصيرة، وهدوء النفس، وصدق التوجّه إليك.
اللهم اجعلنا ممن يُربّون بحب، ويؤدّبون بحكمة، ويعذرون بإنصاف، ويربّتون على القلوب قبل السلوك.
ويا رب، إذا ضللنا الطريق في التربية، فاهدنا إليه بلطفك، وإذا تعبنا، فأعنّا، وإذا بكينا خفية، فاجبر خواطرنا بثمرةٍ تسرّنا وتقرّ أعيننا بها.
"فإننا لا نُربّي لنُباهي، ولا لنحصد الشكر، بل لأننا مؤمنون أن هذه الأمانة عظيمة، وأن هذا الجيل يستحق أن نكون له سندًا... حتى إن علّمه الدرسَ أحدٌ غيرنا، فليكن أول من أمسك بيده هو نحن."
حتى وإن تعلّم الدرس من الحياة، نريد أن نكون له فيها أول من أمسك بيده نحن.
0 comments:
Post a Comment