من أروع المبادئ التي لو عشنا بها حياتنا وعلمناها لأبنائنا هو مبدأ السعي. ليس السعي مجرد حركة عابرة أو محاولة مؤقتة، بل هو رحلة حياة؛ عمل مستمر يغذي الأرواح ويصلح النفوس، ويعزز لدينا ولدى أبنائنا ثقة واطمئنانًا لا ينفدان.
السعي فطرة كونية جعلها الله في كل مخلوقاته؛ فكل ما في الكون يسعى في نظام محكم، من دوران الكواكب إلى نمو النباتات وحركة الحيوانات، دليلٌ على عظمة الخالق وحكمته. يقول الله تعالى: "كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى" [الرعد: 2]، مشيرًا إلى أن كل شيء يسير وفق قدر إلهي دقيق. وهذه الحركة الدائمة نحو تحقيق الغاية هي صورة من صور السعي الكوني، وتؤكد على أهمية الاستمرارية والصبر.
وفي موضع آخر، يقول الله سبحانه في سورة النجم:
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39]،
لتوضّح أن الإنسان ينال الخير بقدر ما يسعى ويجتهد، وأن النجاح ليس دائمًا مرتبطًا بالنتائج السريعة، بل بمقدار الجهد والصبر. ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا المبدأ بقوله: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" [رواه مسلم]. هنا نجد دعوة واضحة للسعي المستمر، حتى وإن تعثرت الخطى، متوكلين على الله ومؤمنين أن الخير يكمن في الجهد بقدر ما هو في النتيجة.
لكن يجب أن ننتبه عند تعليم أبنائنا هذا المبدأ، فالسعي لا يجب أن يُربط دائمًا بالنتائج المباشرة أو المكاسب الآنية؛ تعليمهم هذا الأسلوب قد يولد لديهم إحباطًا إن لم تتحقق النتائج بسرعة، وقد يجعلهم غير قادرين على الصبر ومواجهة التحديات الكبيرة التي تتطلب وقتًا وتفانيًا. كذلك، حين يرتبط السعي بالمكاسب غير الحقيقية كالتقدير الزائف أو الثناء غير المستحق، فإننا نعرضهم لخطر السعي للتقدير الخارجي بدلًا من بناء الثقة بالنفس.
السعي حين يُزرع في القلب، يشبه بذرةً لا تيبس أبدًا، بل تنمو تحت الأرض حتى يأتي وقتها وترى النور. إيليا أبو ماضي قالها في أبياته:
"كن بلسماً إن صار دهرك أرقما
وحلاوة إن صار غيرك علقما"
فالسعي نحو الخير هو سعي نحو الله، نحو النور الذي يجعل الحياة أكثر جمالًا، حتى وإن كانت الصعوبات تحيط بنا. نستمر بزرع الطيب، كي نرى ثمار السعي الطيب.
ويضيف جلال الدين الرومي بعدًا عميقًا لهذا المعنى بقوله:
"أينما كنتم، السعي إليكم يجذب من تبحثون عنه، فالكون هو السعي المتبادل بين الأشياء."
الرومي يشير إلى أن السعي يجذب الخير، فنحن حين نسعى بصدق تتفاعل نياتنا مع الكون، ويُرسل لنا الله العون والتيسير في لحظات لم نكن نتوقعها.
ولعل نجيب محفوظ اختصر المعنى بقوله:
"قد يتعثر الساعون، لكنهم لا يتوقفون، لأن الوقوف موت للحياة."
السعي هو حياة للروح، هو زاد لا ينضب. حين يتعثر أبناؤنا، يجب أن يتعلموا أن التعثر لا يعني التوقف؛ بل هو خطوة تسبق النهوض والاستمرار.
فلنعلم أبناءنا أن السعي هو بذل الجهد بإيمان وصبر، وأن النتائج مرتبطة بحكمة الله وتقديره. قد تتأخر النتائج، وقد لا تأتي بالشكل الذي نريده، لكن السعي نفسه هو غاية؛ هو التزام ومثابرة وصبر.
اللهم أعنا على غرس هذا المبدأ في قلوب بناتنا، واجعل السعي نورًا يقودهنّ في درب الحياة، مليئًا بالأمل والإيمان.
#فلسفة_السعي #النور #الأمل #الحياة
0 comments:
Post a Comment